وداعاً أبي
أصبحتَ طيفاً بعيد المنال.
وأُقصيتَ عنا.
وفي ذلك النهار فقدناك.
وجُردتَ من بيننا.
أتينا إليك،
بكينا على فراقك.
لقد كنتَ في قلوبنا مثل طائر الأيك،
أنتَ الحب الذي تغنينا به.
كنتَ معنا في كل الحلم، حلماً،
ومع العمر كنتَ حكاية.
مع الليل كنتَ بدراً أفتتننا به.
وأصبحتَ طيفاً بعيد المنال.
لقد كان يوماً عصيباً علينا.
آه من فقد الشباب!
لقد كنتَ كالشمس كلما ظهرت،
لكن كيف ددت بعيداً،
وغبتَ في الفجر؟
وها نحن قد أصبحنا بحاجة إليك،
نلاقيك حيث انتهينا،
في سراب.
ما كنتُ أظن أن الأيام
ستغتال المتألمين والشرب!
وأن نجوم السماء اللامعة
ستداس تحت الأقدام!
ويصبح من كان يسير بهدوءٍ
يحلّق كالعصفور،
بل كالشهاب.
ويغمرنا الحزن حتى كأننا
كالفلك،
تُركنا في طمي العذاب.
وداعاً أبي،
وداعاً فالموت جرح عميقٌ.
وداعاً فالموت كظفرٍ وناب.
وداعاً أبي، ولتكن في مكانٍ أفضل
في أعالي الجنان وطيب المآب.
سألوني: لماذا لم أرث أبي؟
سَألوني: لماذا لم أرث أبي؟
ورثاء الأب دينٌ عظيم.
أيها اللائمون، ما أظلمكم!
أين لي العقل الذي يسعدني؟
يا أبي، ما أنت في بداية هذا كله!
كل نفسٍ آتيةٌ إلى الردى.
مات قبلنا الكثير من الناس.
ونعى الناعون خير الثقلين.
غاية المرء وإن طال الزمن،
ليأخذنا بالأصغرين.
وطبيب يتولى مريضاً،
نافضاً من حكمته أنيناً.
إن للموت يدٍ إن قست،
يقترب من شمل المتباعدين.
يتجاوز الجو وهو خلفنا،
ويلاقي الأسد بين الجبال.
وتحط الصغار عن أعشاشها،
وتنال الببغا ذات الدخون.
أنا من مات، ومن مات أنا،
لقينا الموت في مرتين.
كنا حياةً في جسدٍ،
ثم صرنا حياةً في جسدين.
ثم عدنا حياةً في جسدٍ،
ثم نقذف بأجسادنا في أكفان.
ثم نحيا في عليين بعدنا،
وبه نبعث في البعث الأول.
فإذا ما سُئل: ما أصلهما،
أقول: هما الرحمة في رحمتين.
قد وجدنا في وجودنا،
ونعمتنا منهما في جنتين.
وهما العذر إذا غضبا،
وهما الصفح لنا في رضاء.
ليت شعري: أي حيٍ لم يدن،
بما دُنا به المبتدئين؟
ما أبي إلا أخٌ فارقته،
ودّه الصادق ومحبة الناس.
طالما اجتمعنا على مائدةٍ،
كانت القسمة بها كما ترين.
وشربنا من إناءٍ واحد،
وغسلنا بعد ذلك أيدينا.
وتمشينا يدي في يده،
فمن رآنا قال: أخوان.
نظر الزمن إلينا نظرة،
سَوّى الشر، فكانت نظراتين.
يا أبي والموت كأس مرة،
لا تذوق منها النفس مرتين.
كيف كانت الساعة التي قضيتها،
كل شيءٍ قبلها وبعدها هين؟
أشربت الموت فيها جرعة،
أم كنت أشرب الموت فيها جرتين؟
لا تخف بعدك حزنٌ أو بكاء،
قد جمدت عيناي اليوم.
أنت قد علمتني ترك الحزن،
كل زينٍ نهايته الموت.
ليت شعري: هل لنا أن نلتقي،
مرّةً أخرى، أم أن ذلك افتراقٌ أبدي؟
وإذا متُّ وأُودعتُ الثرى،
أَنلقى قبراً أم قبريْن؟
أبي
أبي، كنت طفلاً على كتفيك،
تلقيت العطف كأزهر كوكب.
وفي راحتيك الحياة والندى،
ونحن كنبتٍ في الروابي المعشبة.
وبستان قمح ونخل جذاب،
وظلٌ متعثر في المهرج.
وأنت الأمير تمرّ بنا،
ربيع يغنيك في موكبك.
أيا من رضاؤك في رضا،
لربّي وقلبي، وذا مطلبٌ لي.
حديثك فاكهة المجالس،
يبدد حزن الحياة المعرب.
وكفك شرنقة للحياة،
تعرّت لتكسو هذا الصبي.
وتسبل فوقك صبراً جميلاً،
ستائر تخفي عنا المتعب.
وصدرك بحر يتلاطم،
رسا فيه الحلم والعفو عن المذنب.
فيارب العجب للفضاء الواسع،
عندما يدور عقلي في حيرة.
فقد بدا الحل في رأيك الصائب،
وإن كدّر القلب من علة.
أتى الصفاء من وصفك الأجمل،
عصيتك لكنك كنت برّاً بي.
فمن لي مثلك صدرٌ أبي،
وأنت كفجر يضيء الدنا.
تقصّر ليالي الأسى المطولة.
قصيدة أبي لنزار قباني
أماتَ أَبوك؟
ضلالٌ! أنا لا يموتُ أبي.
ففي البيت منه
روائح ربٍّ.. وذكرى نَبي.
هنا ركنه.. تلك أشياؤه،
تتفتح بآلاف الغصون.
جريدتُه. تُبغيه. مُتَّكَاهُ،
كأنَّ أبي – بعد – لم يغادر.
وصحن الرماد.. وفنجانه،
على حالهِ.. بعدُ لم يُشْرَبِ.
ونظارتاه.. أيسلو الزجاج،
عُيُوناً أشفّ من المغرب؟
بقاياه في الحُجُرات الفساح،
بقايا النُسور على الملعب.
أجول الزوايا عليه، فحيث
أمرُّ.. أمرُّ على مُعشِبٍ.
أشُدُّ يديه.. أميلُ عليه،
أُصلّي على صدرهِ المُتْعَبِ.
أبي.. لم يَزلْ بيننا، والحديثُ
حديثُ الكؤوسِ على المَشرَبِ.
يسامرنا.. فالدوالي الحُبلى،
تؤمن من ثغرهِ الطيّب..
أبي خبرٌ كان من جَنةٍ،
ومعنى من الأرحب الأرحب.
وعينَا أبي.. ملجأٌ للنجوم،
فهل يذكر الشَرقُ عَيْنَيْ أبي؟
بذاكرة الصيف من والدي،
كرومٌ، وذاكرة الكوكب..
أبي يا أبي.. إنَّ تاريخاً طيباً،
وراءكَ يمشي، فلا تعتب.
على اسمكَ نمضي، فمن طيّبٍ،
شهي لأطيب المجاني.
حَمَلْتُكَ في صحو عينيّ.. حتى
تَهيَّأ للناس أنِّي أبي.
أشيلُكَ حتى بنبرة صوتي،
فكيف ذَهَبْتَ.. ولا زلتَ بي؟
إذا فُلَّة الدار أعطتْ لدينا،
ففي البيت ألف فمٍ مُذهَبِ.
فَتَحْنَا لتموزَ أبوابَنا،
ففي الصيف لا بُدَّ يأتي أبي.
أبي إيليا أبو ماضي
طوى بعض نفسي إذ طواك الثّرَى عني،
وهذا بعضها الثاني يفيض به جفني.
أبي! خانني فيك الردى فتقوضت،
مقاصير أحلامي كبيت من التّين.
وكانت رياضي حاليات ضاحكة،
فأقوت وعفّى زهرها الجزع المضني.
وكانت دناني بالسرور مليئة،
فطاحت يد عمياء بالخمر والدّن.
فليس سوى طعم المنّية في فمي،
وليس سوى صوت النوادب في أذني.
ولا حسن في ناظري وقلما،
فتحتهما من قبل إلا على حسن.
وما صور الأشياء، بعدك غيرها،
ولكنّما قد شوّهتها يد الحزن.
على منكِ تبر الضحى وعقيقه،
وقلبي في نار، وعيناي في دجن.
أبحث الأسى دمعي وأنهيته دمي،
وكنت أعدّ الحزن ضربًا من الجبن.
فمستنكر كيف استحالت بشاشتي،
كمستنكر في عاصف رعشة الغضن.
يقول المعزّي ليس يحدّي البكا الفتى،
وقول المعزّي لا يفيد ولا يغني.
شخصت بروحي حائراً متطلّعاً،
إلى ما وراء البحر أأدنو وأستدني.
كذات جناح أدرك السيل عشّها،
فطارت على روع تحوم على الوكن.
فواها لو أنا في القوم عندما،
نظلرت إلى العوّاد تسألهم عنّي.
ويا ليتما الأرض انطوى لي بساطها،
فكنت مع الباكين في ساعة الدفن.
لعلّي أفي تلك الأبوّة حقّها،
وإن كان لا يوفى بكيل ولا وزن.
فأعظم مجدي كان أنك لي أب،
وأكبر فخري كان قولك: ذا ابني!
أقول: لي أنا… كي أبرّد لو عتي،
فيزداد شجوي كلما قلت: لو أني!
أحتّى وداع الأهل يحرمه الفتى؟
أيا دهر هذا منتهى الحيف والغبن!
أبي! وإذا ما قلتها فكأنني،
أنادي وأدعو يا بلادي ويا ركني.
لمن يلجأ المكروب بعدك في الحمى،
فيرجع ريان المنى ضاحك السنّ؟
خلعت الصبا في حومة المجد ناصعاً،
ونزّه فيك الشيب عن لوثة الأفن.
فذهن كنجم الصيف في أول الدجى،
ورأى كحد السيف أو ذلك الذهن.
وكنت ترى الدنيا بغير بشاشة،
كأرض بلا مناء وصوت بلا لحن.
فما بك من ضر لنفسك وحدها،
وضحكك والإيناس للبحار والخدن.
جريء على الباغي، عيوف عن الخنا،
سريع إلى الداعي، كريم بلا منّ.
وكنت إذا حدّثت حدّث شاعر،
لبيب دقيق الفهم والذوق والفن.
فما استشعر المصغي إليك مللاً،
ولا قلت إلا قال من طرب: زدني!
برغمك فارقت الربوع وإذا،
على الرغم منا سوف نلحق بالظعن.
طريق مشى فيها الملايين قبلنا،
من المليك السامي عبده إلى عبده الفن.
نظنّ لنا الدنيا وما في رحابها،
وليست لنا إلا كما البحر للسفن.
تروح وتغدو حرّة في عبابه،
كما يتهادى ساكن السجن في السجن.
وزنت بسرّ الموت فلسفة الورى،
فشالت وكانت جعجعات بلا طحن.
فأصدق أهل الأرض معرفة به،
كأكثرهم جهلاً يرجم بالظّنّ.
فذا مثل هذا حائر اللب عنده،
وذاك كهذا ليس منه على أمن.
فيا لك سفرًا لم يزل جدّ غامض،
على كثرة التفصيل في الشرح والمتن.
أيا رمز لبنان جلالاً وهيبة،
وحصن الوفاء المحصن في ذلك الحصن.
ضريحك مهما يستسرّ وبلذة،
أقمت بها تبني المحامد ما تبني.
أحبّ من الأبراج طالت قبابها،
وأجمل في عينيّ من أجمل المدن.
على ذلك القبر السلام، فذكره،
أريج به نفسي عن العطر تستغني.