الاعتدال في العبادات البدنية
ورد في الحديث الشريف عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قوله: “جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله وقد غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال ثالث: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله إليهم، فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.
هذا الحديث الشريف يُظهر عتاب النبي الكريم لأولئك الذين يشددون على أنفسهم في العبادة بدافع الخوف من الله والتقوى له. فإن أحداً لا يمكن أن يدعي أنه أشد حرصاً على خشية الله وتقواه من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يتشدد النبي الكريم على نفسه أكثر من الحد المعقول، مما يعني أنه لا ينبغي على المسلم أن يُشدد على نفسه في العبادة، مُراعاةً لقوله تعالى: “لأنفسكم عليكم حقاً”.
أمثلة على الاعتدال في العبادات
يمكن أن نستخلص من الحديث السابق ثلاث أمثلة على توازن واعتدال النبي -صلى الله عليه وسلم- في العبادات:
- ضرورة الاعتدال بين حق الله تعالى في قيام الليل وحق البدن في النوم الكافي؛ فلا قيام ليل صحيح إلا بعد نومٍ كافٍ.
- توازن بين حق الروح في السمو بالصيام وحق الجسد في تناول المباح من الطعام؛ فلا يُتصور أداء الصيام كما يريد الله إلا من جسدٍ استعد بالسحور.
- التوازن بين حق الله تعالى بالتفرغ لطاعته وحق الفرد والمجتمع في بناء أسرة صالحة عن طريق الزواج؛ فلا يمكن التفرغ لطاعة الله إلا بكسر الشهوة المشتتة عن الطاعة بالمباح.
القواعد الفقهية المتعلقة بالاعتدال في العبادة
أبرزت مجموعة من القواعد الفقهية اعتدال الشريعة، ومن هذه القواعد: قاعدة “المشقة تجلب التيسير”، وقاعدة “إذا ضاق الأمر اتسع”، واستنبط الفقهاء بموجب هذه القواعد العديد من الرخص الشرعية المسموح بها لارتكاب بعض المحرمات أو ترك بعض الواجبات؛ لأن “من قواعد الشرع الكلية أنه: لا واجب مع عجز، ولا حرام مع ضرورة”.
ومن الأمثلة على الرخص المستنبطة من تلك القواعد والتي تُظهر اعتدال الشريعة في العبادات وفي سائر جوانب الحياة:
- رخص الإسقاط: كإسقاط الصلاة عن الحائض والنفساء.
- رخص التنقيص: كقصر الصلاة في السفر.
- رخص الإبدال: كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم عند عدم الماء.
- رخص الاضطرار: كأكل الميتة عند خشية الموت جوعاً.
إن الأصل في المسلم هو مراعاة التوازن والاعتدال في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك علاقته مع الله، مُتبعاً وصية سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو: “صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا”.