التفسير والمفسرون
القرآن الكريم هو كلام الله -عز وجل-، وهو رسالته -سبحانه- إلى البشرية جمعاء. وقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بأداء الأمانة وتبليغ الرسالة، مُوجِداً للأمة من بعده منهاجًا واضحًا وطريقًا مستقيمًا. ومع مرور الزمن، نشأت حاجة لتطوير علم التفسير، ومع تقدم العصور، تشكّل هذا العلم الذي يختص بتفسير القرآن الكريم وعلومه لأسباب عدة، أهمها اتساع رقعة الدولة الإسلامية وزيادة عدد أتباع الدين الإسلامي، وخاصة غير الناطقين باللغة العربية منهم، الذين كانوا بحاجة لفهم مراد الله من آياته. كما أن الفجوة الزمنية بين عصور النبوة والعصور اللاحقة ساهمت في استقلال هذا العلم عن باقي العلوم الشرعية. وقد تنوّعت مناهج التفسير، مما أدى إلى ظهور مدارس متعددة مثل: مدرسة التفسير بالمأثور، ومدرسة التفسير بالرأي. وجاء في أنواع التفسير التفسير العلمي، والتفسير التحليلي والبياني، بالإضافة إلى التفسير الفقهي. من بين المصنفات التي تنتمي إلى مجال التفسير الفقهي، يأتي كتاب “أحكام القرآن” للجصّاص، والذي سنتناول منهجه في هذا المقال.
أحكام القرآن للجصاص
يعتبر كتاب “أحكام القرآن” للجصّاص من أهم المؤلفات في المكتبة الإسلامية ضمن موضوعات تفسير القرآن الكريم وعلومه، حيث حظي بمساحة كبيرة من البحث والدراسة، خاصة في منهجه وآراء الباحثين فيه. وفيما يلي ملخص لما ذهب إليه صاحب كتاب “التفسير والمفسرون”:
- ينظر الباحثون المتخصصون في مناهج المفسرين إلى كتاب “أحكام القرآن” للجصّاص على أنه يعدّ من أبرز كتب التفسير الفقهي، حيث يركز على الآيات المتعلقة بالأحكام الشرعية دون غيرها. ويستعرض جميع سور القرآن الكريم مع الوقوف عند آيات الأحكام، مما يجعل الهيكلية التنظيمية للكتاب تتماشى مع تصنيفات المصنفات الفقهية، ويعنون كل باب من أبوابه بعناوين تتضمن المسائل التي سيعرضها المؤلف. وللكتاب قيمة خاصة لدى أتباع المذهب الحنفي، إذ يعكس منهجهم في تناول القضايا الفقهية، وهو ما جعل الإمام الجصّاص من المدافعين عن هذا المذهب في أعماله.
- تعتمد كتابة الجصّاص على الاستطراد في الكثير من المسائل الفقهية، حيث يُظهر اختلاف الآراء الفقهية وأدلتها بتفصيل كبير، ولا يقتصر تفسيره على استنباط الأحكام من الآيات بل يتجاوز بعضها إلى مسائل أخرى، مما جعل بعض الباحثين يقارنون بين كتابه وكتب الفقه المقارن. فعلى سبيل المثال، عند مناقشة قوله -تعالى-: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، يشرح مذهب الحنفية في مسألة شرط العتق.
- من الانتقادات الموجهة لمنهج الجصّاص، يظهر تعصبه للمذهب الحنفي، حيث أحيانًا قد يُفصل تأويل بعض الآيات لتتفق مع مذهبه أو يُقلل من أهمية دلالتها. مثال على ذلك، عند تناوله لقوله -سبحانه-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)، يسعى الجصّاص لتأكيد جواز عقد المرأة على نفسها دون إذن وليها.
- لاحظ المؤرخون تأثر الجصّاص بمعتقدات المعتزلة ورؤاهم في عدة مواضيع في تفسيراته. على سبيل المثال، عندما يتناول قوله -عز وجل-: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار)، يتضح من موقفه موافقته لمذهب المعتزلة في مسألة رؤية الله -سبحانه-. ويظهر ذلك عبر قوله: “مَعْنَاهُ: لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ”، وهو ما يعزز تأثره بالمذهب المعتزلي من خلال تأويل مواقع أخرى مثل قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) بمعنى الانتظار والعلم.
- تضمنت الكتابات الاجتماعية للجصّاص نقده لمعاوية -رضي الله عنه- في عدة مواضع، وكان من الأفضل أن يترك الأمور إلى الله ولا يمسّ صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ففي تعقيبه على قوله -عز وجل-: (وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض)، يؤكد صحة خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة، بينما يُعبر عن عدم اعترافه بخلافة معاوية، مما يعكس تحامله.
التعريف بالجصّاص
الإمام الجصّاص، مؤلف كتاب “أحكام القرآن”، له مكانة مرموقة في عصره وبين أقرانه، حيث خصصت له كتب التراجم مساحات متعددة للتعريف بشخصه وبشيوخه وتلاميذه ومنتجاته العلمية، كما يلي:
- هو أحمد بن علي، أبو بكر الرازي، إمام ذو منزلة رفيعة، ولقبه الجصّاص.
- تميّز بالزهد والورع، ودرس الفقه على يد أبي الحسن الكرخي، وتولى رئاسة الفقه حتى أقبل عليه طلاب العلم، ورغم ذلك رفض تولي منصب قضاء القضاة.
- استقر للعمل التدريسي في بغداد، حيث وصلها سنة 325 هـ، ومن ثم سافر إلى الأهواز وعد إلى بغداد بعد فترة، قبل أن ينتقل إلى نيسابور مع الحاكم النيسابوري ثم يعود مجددًا إلى بغداد في سنة 344 هـ.
- تعلّم على يده عدد من العلماء البارزين مثل: أبو بكر الخوارزمي، وأبو عبد الله الجرجاني، وأبو الفرج المعروف بابن المسلمة، وغيرهم.
- له العديد من المصنفات المعروفة مثل “أحكام القرآن”، وشرح مختصر شيخه أبي الحسن الكرخي، وشرح مختصر الطحاوي، وشرح الأسماء الحسنى، وله أيضًا مؤلف في أصول الفقه.
- توفي في السابع من شهر ذي الحجة سنة 370 هـ، وكان يبلغ من العمر 65 سنة.