الأحكام الفقهية الخمسة
يصنف الحكم الشرعي عند الفقهاء إلى خمسة فئات رئيسية، والتي يمكن توضيحها كما يلي:
- الواجب: هو ما يطلبه الشارع من المكلف القيام به بشكل إلزامي، حيث يرتبط بالثواب عند الفعل، والعقاب عند الترك، مثل الصلوات الخمس، والصيام، والحج، وغيرها من الواجبات.
- الحرام: هو ما يطلب الشارع من المكلف تركه بشكل قطعي، بحيث يُثاب تاركه ويعاقب فاعله، مثل الربا، والزنا، والسرقة، وغيرها من المحرمات.
- المندوب: ويعرف أيضًا بالمسنون، وهو ما يُفضل الشارع القيام به ولكنه ليس بإلزام؛ فيثاب فاعله ولا يُعاقب تاركه، مثل السنن الرواتب، وصلاة الوتر، وغيرها.
- المكروه: هو ما يفضل الشارع تركه ولكن ليس بإلزام، حيث يُثاب تاركه ولا يُعاقب فاعله، مثل الالتفات بدون حاجة أثناء الصلاة، والعبث القليل، وغيرهما.
- المباح: هو ما يستوي فعله وتركه، فلا يوجد توجيه من الشارع لفعل أو ترك ذلك، ولا ثواب أو عقاب في ذلك، إلا إذا نوى المكلف فعل المباح طاعة لله، فيؤجر على نواياه، كالأكل أو النوم حتى يتمكن من العبادة.
إن تنوع الأحكام الفقهية جاء لأسباب متعددة، منها:
- رفع الحرج والمشقة عن المكلفين: فقد جاءت الأحكام التكليفية لتسهيل الأمور على العباد، حيث لو اقتصرت على التحريم والوجوب فقط لكانت عبئًا على العباد، مما لا يتيح لهم الفرصة للتلبية. ومن هنا جاءت الشريعة سهلة ومتنوعة بفضل أوامر ونواهي الله تعالى، إذ تشمل أيضًا المندوبات والمباحات والمكروهات بجانب الواجبات والمحرمات.
- الاختبار والابتلاء من الله تعالى للمكلفين: وهو يتماشى مع تباين النفس البشرية؛ فبعض الأشخاص تحفزهم المكافآت فيسعون لتحقيقها، بينما يخشى آخرون العقاب فيبتعدون عما يؤدي إليه. وزيادة إيمان العبد تقوده لتفهم مراد الله في المصلحة المشروعة، مما يجعله يلتزم بالطاعات والنوافل بشغف، حيث ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: (وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ).
مصادر الأحكام الفقهية
تتعدد مصادر التشريع التي يعتمد عليها العلماء في استنباط أحكام الله وتوضيحها، وتتجاوز العشرين مصدرًا؛ بين أهمها الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، ومذهب الصحابي، وشرع من كان قبلنا، والعرف، وسد الذرائع. من المهم التأكيد على أن المصدر الأساسي هو المصدر التشريعي السماوي، وليس الوضعى المتعلق بوضع البشر؛ فالمصدر التشريعي الوحيد المتفق عليه من جميع المسلمين هو الله تعالى، فهو المشرع وحده. يظهر هذا المصدر السماوي بوضوح في القرآن الكريم وما يدل عليه، بينما المصادر الأخرى هي توضيحات وشروحات للكتاب العزيز، وليست منشئة للأحكام. الحكم المتفق عليه بين المسلمين هو حكم الله عز وجل، وقد تم الاتفاق بين العلماء على تحديد المصادر التشريعية التي يُرجع إليها المجتهد لاستخراج الحكم الشرعي، وهي أربعة مصادر: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس. أما المصادر الأخرى، فترجع بحسب الحالة التي يُستنبط منها الحكم، وليست محل توافق بين العلماء. وفيما يلي توضيح لمصادر التشريع الأربعة الرئيسية:
- الكتاب: القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل، الذي أُنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي جبريل عليه السلام، وهو مُتعبد بتلاوته، ومكتوب في المصاحف، ومنقول إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلًا متواترًا، عن طريق المشافهة والكتابة. لا خلاف بين المسلمين في أن القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع، وأنه حجة على الناس جميعًا. إن لفظ القرآن ومعناه من عند الله، إذ ليس للرسول فيه سوى البلاغ؛ وبالتالي فلا يمكن اعتبار أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قرآنًا، ولا تُعتبر ترجمة القرآن قرآنًا أيضًا، وأنه بلسان عربي مبين، كما قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
وصل إلينا القرآن الكريم بصورة كاملة، حيث قام الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجمعه، ومن ثم نسخه الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وتوزيعه على أمصار الدولة الإسلامية. يتضمن القرآن الكريم كل ما يحتاجه المسلم في حياته، إذ يمتلك أهمية كبيرة في حياة الفرد المسلم والأمة الإسلامية، في تعزيز الإيمان، وتزكية النفس وتهذيبها، بالإضافة إلى بيان الأخلاق التي ينبغي التمسك بها، والأحكام المتعلقة بأفعال وأقوال المسلمين.
- السنة النبوية: تعتبر سنة النبي صلى الله عليه وسلم المصدر الثاني للتشريع، ونقطة مرجعية عظيمة لما يخص الناس كافة، وهذا متفق عليه بين أهل العلم وقد أشار القرآن الكريم والسنة النبوية إلى ذلك بنصوصهما وأساليبهما المتعددة. يتضمن ذلك الأمور التالية:
- الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).
- ارتباط محبة الله تعالى لعباده باتباع نبيّه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
- الأمر باتباع ما يُقدّمه الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ورد في قوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
- وقد كان الصحابة رضي الله عنهم مثالًا حيًّا لاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم، حيث اتبعوا السنة في جميع أمور حياتهم. وقد ورد في السنة النبوية العديد من الأحاديث التي توضح وجوب اتباع السنة، مثلما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا ألفَيَنَّ أحدَكم متَّكئًا على أريكتِه يأتيهِ الأمرُ مِن أمري مما أمرتُ بهِ أو نهيتُ عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كِتابِ الله اتبعناهُ). وأيضًا قوله: (تركتُ فيكم شيئَينِ، لن تضِلوا بعدهما: كتابَ اللهِ وسُنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحوضَ).
- الإجماع: يُعرف الإجماع بأنه اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على حكم واقعة لم يرد نص خاص بشأنها. ويُعتبر مصدرًا تشريعيًا ودليلًا من أدلة الأحكام؛ وقد ثبت ذلك بنصوص متعددة من الكتاب والسنة. كما يستند الإجماع إلى دليل شرعي، قد يكون نصًا من الكتاب أو السنة.
- القياس: يُعرف القياس بأنه إلحاق مسألة لا نص على حكمها بمسألة ورد النص بحكمها، لاشتراك المسألتين في العلة. يُعتبر القياس حجة قوية وأحد أصول الاستنباط، إذ يأتي بعد القرآن والسنة والإجماع. حيث أن المسائل المعتمدة على الإجماع محدودة ومتعذّر تحقيقها بشكل كامل في الأزمنة اللاحقة، إلى جانب أن الوقائع التي تطرأ على الناس لا حصر لها والتي تتجدد مع مرور الزمن، مما يتطلب من فقهاء الأمة توضيح حكم الله في كل واقعة؛ لذا كان للقياس دور كبير في أحكام الفقه الإسلامي.
أمثلة على الأحكام الفقهية
تتفرع الأحكام الفقهية حسب الموضوع الذي تتعلق به؛ وفيما يلي بعض الأنواع:
أحكام فقهية عامة في العبادات
وضحت الشريعة الإسلامية العديد من الأحكام الفقهية المتعلقة بالعبادات، وإليكم بعضًا منها:
- الوضوء: يثبت في القرآن الكريم والسنة المطهرة أن الوضوء واجبٌ على كل محدث حدثًا أصغر أراد أن يُصلي؛ حيث قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)، وهو شرط لصحة الصلاة؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أحَدِكُمْ إذا أحْدَثَ حتَّى يَتَوَضَّأَ).
- الغسل: أوجب الله تعالى الغسل على كل محدث حدثًا أكبر، مثل الجنابة وغيرها؛ كما قال الله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا).
أحكام فقهية عامة في المعاملات
قد وضحت الشريعة الإسلامية الأحكام الفقهية المتعلقة بالمعاملات، ونعرض بعضًا منها كما يلي:
- الوفاء بالعقود: لقد أمر الله تعالى المؤمنين بالوفاء بالعقود الصحيحة التي استكملت شروطها بمختلف أنواعها، مثل عقود المبايعات، والإيجارات، والشركات، وغيرها. كما حرم الله تعالى عليهم نقضها؛ حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
- النهي عن الربا: ورد تحريم الربا في القرآن والسنة؛ فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وشاهدَيْه، وكاتبَه).
- العاريّة: عرّف الفقهاء العاريّة بأنها إباحة نفع عين يُباح الانتفاع بها بدون عوض. وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع؛ حيث تُعتبر قربة مندوبة، كما قال الله تعالى: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (العاريَّةُ مؤدَّاةٌ، والمِنحةُ مردودةٌ، والدَّيْنُ مَقْضِيٌّ، والزَّعيمُ غارمٌ). وقد اتفق فقهاء المسلمين على استحباب العاريّة، وأنها من أفضل القُربات، فهي من باب التعاون المأمور به في قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
- الهبة والعطية: تُعتبر الهبة مستحبة بدليل الكتاب والسنة والإجماع، لأنها تحقق مقصداً من مقاصد الشريعة الإسلامية؛ حيث تقوم على تآلف القلوب، ونشر المودة في المجتمع الإسلامي، ومنع التقاطع بين المسلمين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا). وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها).